فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)}
{نَبّىء} قيل: مطلقًا، وقيل: الذين عبر عنهم بالمتقين أي أخبرهم {عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم}.
{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)}
وهذا إجمال لما سبق من الوعد والوعيد وتأكيد له، و{أَنَاْ} إما مبتدأ أو تأكيد أو فصل، وهو إما مبتدأ أو فصل، وأن وما بعدها قال أبو حيان: ساد مسد مفعولي {نَبّىء} [الحجر: 49]. إن قلنا: إنها تعدت إلى ثلاثة ومسد واحد إن قلنا تعدت إلى اثنين، وفي ذكر المغفرة إشعار على ما قيل بأن ليس المراد بالمتقين من يتقي جميع الذنوب إذ لو أريد ذلك لم يكن لذكرها موقع، وقيل: إن ذكرها حينئذٍ لدفع توهم أن غير أولئك المتقين لا يكون في الجنة بأنه يدخلها وإن لم يتب لأنه تعالى الغفور الرحيم، وله وجه، وفي توصيف ذاته تعالى بالمغفرة والرحمة دون التعذيب حيث لم يقل سبحانه: وإني أنا المعذب المؤلم ترجيح لجانب الوعد على الوعيد وإن كان الأليم على ما قال غير واحد في الحقيقة صفة العذاب، وكذا لا يضر في ذلك الإضافة إنها لا تقتضي حصول المضاف إليه بالفعل كما إذا قيل ضربي شديد فإنه يصح أن يراد منه ذاك شديد إذا وقع ويكفي في الإضافة أدنى ملابسة، ويقوى أمر الترجيح الإتيان بالوصفين بصيغتي المبالغة، وكذا ما أخرج ابن جرير.
وابن مردويه من طريق عطاء بن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اطلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي منه بنو شيبة فقال: ألا أراكم تضحكون ثم أدبر حتى إذا كان عند الحجر رجع إلينا القهقرى فقال: إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله تعالى يقول لم تقنط عبادي؟ {نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا الغفور الرحيم}» [الحجر: 49]. الآية، وتقديم الوعد أيضًا يؤيد ذلك، وفيه إشارة إلى سبق الرحمة حسبما نطق به الخبر المشهور.
ومع ذلك كله في الآية ما تخشع منه القلوب، فقد أخرج عبد بن حميد.
وجماعة عن قتادة أنه قال في الآية: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم العبد قدر عفو الله تعالى لما تورع من حرام ولو يعلم قدر عذابه لبخع نفسه» وأخرج الشيخان.
وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله سبحانه خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة فلو يعلم الكافر كل الذي عنده من رحمة لم ييأس من الرحمة ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله تعالى من العذاب لم يأمن من النار» ثم إنه تعالى لما ذكر الوعد والوعيد ذكر ما يحقق ذلك لما تضمنه من البشرى والإهلاك بقوله سبحانه: {وَنَبّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} إلخ، وقيل: إنه تفصيل لما تضمنته الآية السابقة منهما لا من الوعيد فقط كما قيل، والمراد بضيف إبراهيم الملائكة عليهم السلام الذين بشروه بالولد وبهلك قوم لوط عليه السلام، وإنما سموا ضيفًا لأنهم في صورة من كان ينزل به عليه السلام من الأضياف وكان لا ينزل به أحد إلا أضافه، وكان لقصره عليه السلام أربعة أبوب من كل جهة باب لئلا يفوته أحد، ولذا كان يكنى أبا الضيفان، واختلف في عددهم كما تقدم، وهو في الأصل مصدر والأفصح أن لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث للمثنى والمجموع والمؤنث فلا حاجة إلى تكلف إضمار أي أصحاب ضيف كما قاله النحاس.
وغيره، ولم يتعرض سبحانه لعنوان رسالتهم لأنهم لم يكونوا مرسلين إليه عليه السلام بل إلى قوم لوط عليه السلام كما يأتي إن شاء الله تعالى ذكره.
وقرأ أبو حيوة {ونبيهم} بإبدال الهمزة ياء.
{إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} نصب على أنه مفعول بفعل محذوف معطوف على {نَبّىء} [الحجر: 49]. أي واذكر وقت دخولهم عليه أو ظرف لضيف بناءً على أنه مصدر في الأصل، وجوز أبو البقاء كونه ظرفًا له بناءً على أنه مصدر الآن مضاف إلى المفعول حيث كان التقدير أصحاب ضيف حسبما سمعته عن النحاس.
وغيره، وأن يكون ظرفًا لخبر مضافًا إلى {ضَيْفِ} [الحجر: 51]. أي خبر ضيف إبراهيم حين دخولهم عليه {فَقَالُواْ} عند ذلك: {سَلاَمًا} مقتطع من جملة محكية بالقول وليس منصوبًا به أي سلمت سلامًا من السلامة أو سلمنا سلامًا من التحية، وقيل: هو نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولًا سلامًا {قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي خائفون فإن الوجل اضطراب النفس لتوقع مكروه، وقوله عليه السلام هذا كان عند غير واحد بعد أن قرب إليهم العجل الحنيذ فلم يأكلوا منه، وكان العادة أن الضيف إذا لم يأكل مما يقدم له ظنوا أنه لم يجىء بخير، وقيل: كان عند ابتداء دخولهم حيث دخلوا عليه عليه الصلاة والسلام بغير إذن وفي وقت لا يطرق في مثله، وتعقب بأنه لو كان كذلك لأجابوا حينئذٍ بما أجابوا به ولم يكن عليه السلام ليقرب إليهم الطعام، وأيضًا قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً} [هود: 70]. ظاهر فيما تقدم؛ ولعل هذا التصريح كان بعد الإيجاس.
وقيل: يحتمل أن يكون القول هنا مجازًا بأن يكون قد ظهرت عليه عليه الصلاة والسلام مخايل الخوف حتى صار كالقائل المصرح به، وإنما لم يذكر هنا تقريب الطعام اكتفاءً بذكره في غير هذا الموضع كما لم يذكر رده عليه السلام السلام عليهم لذلك، وقد تقدم ما ينفعك هنا مفصلًا في هود فتذكره.
{قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ} لا تخف وقرأ الحسن {لاَ تَوْجَلْ} بضم التاء مبنيًا للمفعول من الإيجال، وقرئ {لا} من واجله بمعنى أوجله و{لا} بإبدال الواو ألفًا كما قالوا تابة في توبة.
{يازكريا إِنَّا نُبَشّرُكَ} استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل فإن المبشر لا يكاد يحوم حول ساحته خوف ولا حزن كيف لا وهي بشارة ببقائه وبقاء أهله في عافية وسلامة زمانًا طويلًا.
{بغلام} هو إسحاق عليه السلام لأنه قد صرح به في موضع آخر، وقد جعل سبحانه البشارة هنا لإبراهيم وفي آية أخرى لامرأته ولكل وجهة، ولعلها هنا كونها أوفق بإنباء العرب عما وقع لجدهم الأعلى عليه السلام، ولعله سبحانه لم يتعرض ببشارة يعقوب اكتفاءً بما ذكر في سورة هود، والتنوين للتعظيم أي بغلام عظيم القدر {عَلِيمٌ} ذي علم كثير، قيل: أريد بذلك الإشارة إلى أنه يكون نبيًا فهو على حد قوله تعالى: {وبشرناه بإسحاق نَبِيًّا} [الصافات: 112].
{قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى} بذلك {على أَن مَّسَّنِىَ الكبر} وأثر في والاستفهام للتعجب، و{على} بمعنى مع مثلها في قوله تعالى: {وآتى المال على حبه} [البقرة: 177]. على أحد القولين في الضمير، والجار والمجرور في موضع الحال فيكون قد تعجب عليه السلام من بشارتهم إياه مع هذه الحال المنافية لذلك، ويجوز أن يكون الاستفهام للإنكار و{على} على ما سمعت بمعنى أنه لا ينبغي أن تكون البشارة مع الحال المذكورة.
وزعم بعض المنتمين إلى أهل العلم أن الأولى جعل {على} بمعنى في مثلها في قوله تعالى: {وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ} [القصص: 15]، وقوله سبحانه: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سليمان} [البقرة: 102]. لوجهين الاستغناء عن التقدير وكون المصاحبة لصدقها بأول المس لا تنافي البشارة، وهو لعمري ضرب من الهذيان كما لا يخفى على إنسان.
ثم إنه عليه السلام زاد في ذلك فقال: {فَبِمَ تُبَشّرُونَ} أي فبأي أعجوبة تبشرون أو بأي شيء تبشرون فإن البشارة بما لا يقع عادة بشارة بغير شيء.
وجوز أن تكون الباء للملابسة والاستفهام سؤال عن الوجه والطريقة أي تبشرون ملتبسين بأي طريقة ولا طريق لذلك في العادة.
وقرأ الأعرج {بشرتمون} بغير همزة الاستفهام، وابن محيصن {لإِحْدَى الكبر} بضم الكاف وسكون الباء.
وقرأ ابن كثير بكسر النون مشددة بدون ياء على إدغام نون الجمع في نون الوقاية والاكتفاء بالكسرة عن الياء.
وقرأ نافع بكسر النون مخففة، واعترض على ذلك أبو حاتم بأن مثله لا يكون إلا في الشعر وهو مما لا يلتفت إليه، وخرج على حذف نون الرفع كما هو مذهب سيبويه استثقالًا لاجتماع المثلين ودلالة بإبقاء نون الوقاية على الياء.
وقيل: حذفت نون الوقاية وكسرت نون الرفع وحذفت الياء اجتزاءً بالكسرة وحذفها كذلك كثير فصيح وقد قرئ به في مواضع عديدة، ورجح الأول بقلة المؤنة واحتمال عدم حذف نون في هذه القراءة بأن يكون اكتفى بكسر نوع الرفع من أول الأمر خلاف المنقول في كتب النحو والتصريف وإن ذهب إليه بعضهم.
وقرأ الحسن كابن كثير إلا أنه أثبت الياء وباقي السبعة يقرؤون بفتح النون وهي نون الرفع.
{قَالُواْ بشرناك بالحق} أي بالأمر المحقق لا محالة أو باليقين الذي لا لبس فيه أو بطريقة هي حق، وهو أمر من له الأمر القادر على خلق الولد من غير أبوين فكيف بإياده من شيخ وعجوز {فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين} أي الآيسين من خرق العادة لك فإن ظهور الخوارق على يد الأنبياء عليهم السلام كثير حتى لا يعد بالنسبة إليهم مخالفًا للعادة، وكأن مقصده عليه السلام استعظام نعمته تعالى عليه في ضمن التعجب العادي المبني على سنة الله تعالى المسلوكة فيما بين عباده جل وعلا لا استبعاد ذلك بالنسبة إلى قدرته جل جلاله، فإنه عليه السلام بل النبي مطلقًا أجل قدرًا من ذلك، وينبىء عنه قول الملائكة عليهم السلام: {فَلاَ تَكُن مّنَ القانطين} على ما فيه من المبالغة دون أن يقولوا: من الممترين ونحوه.
{قَالَ وَمَن يَقْنَطُ} استفهام إنكاري أي لا يقنط {مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلاَّ الضآلون} أي الكفرة المخطئون طريق معرفة الله تعالى فلا يعرفون سعة رحمته وكمال علمه وقدرته سبحانه وتعالى، وهذا كقول ولده يعقوب: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} [يوسف: 87]، ومراده عليه السلام نفي القنوط عن نفسه بأبلغ وجه أي ليس بي قنوط من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاة حالي لفيضان تلك النعمة الجليلة علي، وفي التعرض لعنوان الربوبية والرحمة ما لا يخفى من الجزالة.
وقرأ ابن وثاب. وطلحة والأعمش. وأبو عمرو في رواية {القانطين} والنحويان.
والأعمش {يَقْنَطُ} بكسر النون، وباقي السبعة بفتحها، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما.
والأشهب بضمها، وهو شاذ وماضيه مثله في التثليث.
واستدل بالآية على تفسير {الضالين} بما سمعت لما سمعت من الآية على أن القنوط وهو كما قال الراغب: اليأس من الخير كفر، والمسألة خلافية، والشافعية على أن ذاك وكذا الأمن من المكر من الكبائر. للحديث الموقوف على ابن مسعود أو المرفوع: «من الكبائر الإشراك بالله تعالى واليأس من روح الله تعالى والأمن من مكر الله تعالى»، وقال الكمال بن أبي شريف: العطف على الإشراك بمعنى مطلق الكفر يقتضي المغايرة فإن أريد باليأس إنكار سعة الرحمة الذنوب وبالأمن اعتقاد أنه لا مكر فكل منهما كفر اتفاقًا لأنه رد للقرآن العظيم، وإن أريد استعظام الذنوب واستبعاد العفو عنها استبعادًا يدخل في حد اليأس وغلبة الرجاء المدخل له في حد الأمن فهو كبيرة اتفاقًا اهـ وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)}
بين في مواضع أخر أن ضيف إبراهيم المذكورين في هذه الآية أنهم ملائكة كقوله في هود: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69]. كما تقدم وقوله: {قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [الحجر: 57-58]. إلى غير ذلك من الآيات.
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52)}
لم يبين تعالى في هذ الآية الكريمة هل رد إبراهيم السلام على الملائكة أولا لأنه لم يذكر هنا رده السلام عليهم وإنما قال عنه إنه قال لهم إنا منكم وجلون وبين في هود والذاريات أنه رد عليهم السلام بقوله بقوله في هود: {قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} [هود: 69]، وقوله في الذاريات: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 25-26]، وبين أن الوجل المذكور هنا هو الخوف لقوله في القصة بعينها في هود: {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ} [هود: 70]، وقوله في الذاريات: {فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَف} [الذاريات: 28]، وقد قدمنا أن من أنواع البيان في هذا الكتاب بيان اللفظ بمرادف له أشهر منه كما هنا لأن الخوف يرادف الوجل وهو أشهر منه، وبين أن سبب خوفه هو عدم أكلهم بقوله: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَة} [هود: 70].
{قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53)}
ذكر تعالى في هذه الآية الكريمة أن أولئك الضيف الذين هم ملائكة بشروا إبراهيم بغلام موصوف بالعلم ونظير ذلك قوله تعالى أيضًا في الذاريات: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28]، وهذا الغلام بين تعالى أنه هو إسحاق كما يوضح ذلك قوله في الذاريات: {وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم} [الذاريات: 28-30]. لأن كونها أقبلت في صرة أي صيحة وضجة وصكت وجهها أي لطمته قائلة إنها عجوز عقيم يدل على أن الولد المذكور هي أمه كما لا يخفى ويزيده إيضاحًا تصريحه تعالى ببشارتها هي بأنها تلده مصرحًا باسمه واسم ولده يعقوب وذلك في قوله تعالى في هود في القصة بعينها: {وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ قَالَتْ يا ويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 71-72]، وأما الغلام الذي بشر به إبراهيم الموصوف بالحلم المذكور في الصافات في قوله تعالى: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 99-102]. الآية فهو إسماعيل وسترى إن شاء الله تعالى في سورة الصافات دلالة الآيات القرآنية على أن الذبيح إسماعيل لا إسحاق على وجه قاطع للنزاع، والغلام يطلق في لغة العرب على العبد وعلى الصغير الذي لم يبلغ وعلى الرجل البالغ ومن إطلاقه على البالغ قول علي رضي الله عنه يوم النهروان:
أنا الغلام القرشي المؤتمن ** أبو حسين فاعلمن والحسن

وقول صفوان بن المعطل السلمي لحسان رضي الله عنهما:
تلق ذباب السيف عني فإنني ** غلام إذا هوجيت لست بشاعر

وقول ليلى الأخيلية تمدح الحجاج بن يوسف:
إذا نزل الحجاج أرضا مريضة ** تتبع أقصى دائها فشفاها

شفاها من الداء العضال الذي بها ** غلام إذا هز القناة سقاها

وربما قالوا للأنثى غلامة ومنه قول أوس بن غلفاء الهجيمي يصف فرسًا:
ومركضة صريحي أبوها ** يهان لها الغلامة والغلام

قوله تعالى: {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر}.
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال: إنه وقت البشرى بإسحاق مسه الكبر، وصرح في هود بأن امرأته أيضًا قالت إنه شيخ كبير في قوله عنها: {وهذا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72]. كنا صرح عنها هي أنها وقت البشرى عجوز كبيرة السن وذلك كقوله في هود: {يا ويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} [هود: 72]. الآية، وقوله في الذاريات: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29]، وبين في موضع آخر عن نبيه إبراهيم أنه وقت هبة الله له ولده إسماعيل أنه كبير السن أيضًا وذلك قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعاء} [إبراهيم: 39].
قوله تعالى: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ}.
الظاهر أن استفهام نبي إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام للملائكة بقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} استفهام تعجب من كمال قدرة الله تعالى ويدل لذلك أنه تعالى ذكر أن ما وقع له وقع نظيره لامرأته حيث قالت {أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ} وقد بين تعالى أن ذلك الاستفام لعجبها من ذلك الأمر الخارق للعادة في قوله: {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 73]. الآية ويدل له أيضًا وقوع مثله من نبي الله زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام لأنه لما قال: {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38]. الآية {فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى} [آل عمران: 39]. عجب من كمال قردة الله تعالى فقال: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40]. الآية وقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} قرأه ابن عامر وأبو عمرو وعاصم وحمزة والكسائي بفتح النون مخففة وهي نون الرفع وقرأه نافع بكسر النون مخففة وهي نون الوقاية مع حذف ياء المتكلم لدلالة الكسرة عليها وقرأة ابن كثير بالنون المكسورة المشددة مع المد فعلى قراءة ابن كثير لم يحذف نون الرفع ولا المفعول به بل نون الرفع مدغمة في نون الوقاية وياء المتكلم هي المفعول به وعلى قراءة الجمهور فنون الرفع ثابتة والمفعول به محذوف على حد قول ابن مالك.
وحذف فضله أجر إن لم يضر ** كحذف ما سيق جوابا أو حصر

وعلى قراءة نافع فنون الرفع محذوفة لاستثقال اجتماعها مع نون الوقاية.
تنبيه:
حذف نون الرفع له خمس حالات ثلاث منها يجب فيها حذفها وواحدة يجوز فيها حذفها وإثباتها وواحدة يقصر فيها حذفها على السماع، أم الثلاث التي يجب فيها الحذف فالأولى منها إذا دخل على الفعل عامل جزم والثانية إذا دخل عليه عامل نصبو الثالثة إذا أكد العل بنون التوكيد الثقيلة نحو لتبلون وأما الحلاة التي يجوز فيها الإثبات ومن الحذف قراءة نافع في هذه الآية {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} بالكسر وكذلك قوله تعالى: {قَالَ أتحاجواني فِي الله} [الأنعام: 80]، وقوله تعالى: {وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [النحل: 27]. بكسر النون مع التخفيف في الجميع أيضًا وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64]. الآية بالكسر مع التخفيف أيضًا وكلها قرأها بعض القراء بالتشديد لإثبات نون الرفع وإدغامها في نون الوقاية وأما الحالة الخامسة المقصورة على السماع فهي حذفها لغير واحد من الأسباب الأربعة المذكورة كقول الراجز:
أبيت أسري وتبيت تدلكي ** وجهك بالعنبر والمسك الذكي

أما بقاء نون الرفع مع اجازم في قوله:
لولا فوارس من نعم وأسرتهم ** يوم الصليفاء لم يوفون بالجار

فهو نادر حملًا للم على أختها لا النافية أو ما النافية وقيل هو لغة قوم كما صرح به في التسهيل وكذلك بقاء النون مع حرف النصب في قوله:
أن تقرأن على أسماء ويحكما ** مني السلام وألا تشعرا أحدا

فهو لغة قوم خملوا أن المصدرية على أختها ما المصدرية في عدم النصب بها كما أشار له في الخلاصة بقوله:
وبعضهم أهمل أن حملًا على ** ما أختها حيث استحقت عملا

ولا ينافي كون استفهام إبراهيم للتعجب من كمال قردة الله قول الملائكة له فيما ذكر الله عنهم: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} [الحجر: 55]. بدليل قوله: {قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون} [الحجر: 56]. لأنه دليل على أن استفهامه ليس استفهام منكر ولا قانط والعلم عند الله تعالى.
{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)}
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن نبيه إبراهيم قال للملائكة إنه لا يقنط من رحمة الله جل وعلا إلا الضالون عن طريق الحق وبين أن هذا المعنى قاله أيضًا يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم لبنيه في قوله: {يا بني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} [يوسف: 87]. قال ابو حيان في البحر المحيط في تفسيره قوله تعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله} الآية وروح الله رحمته وفرجه وتنفيسه. اهـ.